تصحيح ضروري لمغالطات رائجة حول الإسلام والديمقراطية
content="text/html; charset=windows-1256" hp-equiv="Content-Type" /> content="Microsoft FrontPage Expre 2.0" name="GENERATOR" />
د. عبدالوهاب الأفنديقبل أكثر من شهر، نشر د. الطيب زين العابدين في جريدة الصحافة السودانية تعليقاً علي محاضرة للدكتور جعفر شيخ إدريس حذر فيها الأخير من مزالق الإيمان بالديمقراطية الذي يتناقض عنده مع تعاليم الإسلام. وقد انتقد د. الطيب مقولات د. جعفر في تعارض الديمقراطية والإسلام، مشيراً إلي أن حكم الشعب أقرب إلي الإسلام من حكم الفرد. وقد رد د. جعفر بأربع مقالات (في جريدة الصحافة أيضاً) علي انتقادات د. الطيب، ركز فيها علي أن الأخير أساء فهم أطروحته التي سعي إلي تفصيلها بإسهاب، وملخصها أنه يعترض علي الديمقراطية كنظرية لا كتطبيق. ويقول د. جعفر أنه إن كان المقصود بالديمقراطية هو نظام الحكم المطبّق في معظم الدول الغربية والمتمثّل في الانتخابات التعددية النزيهة والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون والشفافية وحرية التعبير والتنظيم وحقوق الإنسان، وإنشاء الحقوق والواجبات علي أساس المواطنة فإنه يود أن يطمئن الأخ الطيب وقراءه بأنني لست من حيث المبدأ معترضاً علي شيء من هذا (ماعدا مسألة المواطنة) لأنني لا أري فيها شيئاً يتعارض مع الإسلام، بل أعتقد أن بعضها كاختيار الحاكم وحكم القانون هو من صميم الحكم الإسلامي . ويضيف د. جعفر بأن نقده منصب علي النظرية نفسها بغض النظر عن أي محاولة من محاولات تطبيقها وذلك من منطلق عقائدي، إذ أن الإيمان بأن الحكم للشعب ـ سواء كان ممكناً أم غير ممكن ـ هو أمر يتناقض مع الإيمان بالله تعالي، لأن أول لوازم الإيمان بالله هو الإيمان بأن الحكم لا يكون إلا له، وأعني بالحكم هنا الحكم التشريعي، لا الحكم التنفيذي. فالله تعالي هو الذي يحكم تشريعاً والناس هم الذين يحكمون بما أنزل تنفيذاً .وقبل أن نسترسل في استعراض هذا الحوار والتعليق عليه لا بد من التنويه هنا بما أشار إليه د. الطيب بصورة عابرة، وهي أن د. جعفر يتناول الموضوع من زاوية فلسفية، بينما يتناوله د. الطيب من منظور العلوم السياسية ودراسة الواقع. وهذا الاستقطاب يعكس توجهات وخلفية الأستاذين، حيث أن د. جعفر أستاذ فلسفة متخصص (رغم أن هناك علامات استفهام حول استقامة التفلسف مع التوجهات السلفية للشيخ الدكتور) بينما د. الطيب أستاذ علوم سياسية. وبما أنني قد تخصصت في الفلسفة وأتحول إلي دراسة العلوم السياسية، فإنني سأسعي لأكون واسطة خير للتوفيق بين المنظورين، خاصة وأنني أنفقت أكثر من عقدين من الزمان أتأمل في هذا الموضوع تحديداً.ولنبدأ مرة أخري بانتقادات د. الطيب لمحاولة د. جعفر التمييز بين النظرية والتطبيق، وتأكيده أن الديمقراطية مستحيلة التطبيق عملياً، وهو ما رد عليه د. الطيب بأن موضوع الحوار يجب أن يكون تطبيقات الديمقراطية العملية، لأن هذا ما يتحاور حوله الناس لا التهويمات النظرية. وبالمقابل رد د. جعفر بأن كون الإيمان بالديمقراطية هو من قبيل الأوهام لاستحالة تطبيقها عملياً يجب أن يحسب عليها. ولكن النقطة الأهم في السجال بين المفكرين تتعلق بالنقطة النظرية، حيث أن د. الطيب ذكر محاوره بأن التقابل في الحكم ليس بين حكم الله وحكم الشعب، وإنما بين حكم الشعب وبين حكم الفرد أو القلة. وأضاف بأن الديمقراطية باعتبارها حكم الأكثرية تتميز، علاوة علي ما اعترف به د. جعفر من مزاياها، بأنها أحق بأن تؤتمن علي حكم الشرع من مظاهر الاستبداد التي صاحبها ويصاحبها الفساد والانحراف. وختم بالقول: إن الديمقراطية خيار عملي لادارة الدولة الحديثة، وهي أفضل من الخيارات الأخري المطروحة، وأن العالم الاسلامي هو أكثر مناطق العالم تخلفا في نظمه السياسية التي تقوم علي الاستبداد عن طريق القوة العسكرية والوراثة. وأن تلك النظم الاستبدادية ترتكب كل المساوئ التي يخشي منها الشيخ جعفر، بما فيها تفشي منكرات الحضارة الغربية، والخضوع لسياسات الدول الكبري التي تستهين بالعالم الاسلامي، وتستغل موارده، وتمنع نشاط الحركات الاسلامية التي يضطر قادتها الي اللجوء الي الدول الغربية، حتي يجدوا الأمان علي حياتهم وأهلهم وعلي حرية الكلمة والدعوة. لذا أعجب أن يتصدي مفكر اسلامي في قامة الشيخ جعفر شيخ ادريس لمزالق الديمقراطية، ويصمت عن مزالق الاستبداد والديكتاتورية، في حين أن الأولي مفقودة في العالم الاسلامي، والثانية منتشرة في كل أرجائه .وكان ينبغي أن يكون هذا الرد البليغ هو خاتمة المطاف في هذا الحوار، إذ أن المتحاورين علي اتفاق بأن الاستبداد شر، وعلي حق الشعب في اختيار حكامه، وعلي حقوق الإنسان وفصل السلطات، وتداول السلطة. ولكن د. جعفر لا يعتبر ما يراه محاوره تقارباً بين الحكم الإسلامي والديمقراطي أمراً إيجابياً، بل سبباً إضافياً لتجنب تسمية النظام الإسلامي بهذه التسمية التي يعتبرها مضللة، إضافة إلي أصلها الوثني. فإذا كانت كل مزايا الديمقراطية موجودة أصلاً في صلب تعاليم الإسلام وفي صيغة أفصل، فلماذا تستعار من نظام آخر معادٍ؟ ويفند الشيخ جعفر مقولة أن الديمقراطية هي ضمان ضد الفساد، لأن الديمقراطية تفترض أساساً صلاح الشعب، ولو كان الشعب فاسداً فإن الديمقراطية ستأتي بحكام فاسدين كما هو الحال في كثير من دول الغرب.ويبدو أن هذا يقرب بين موقفي المتحاورين، لأن د. الطيب يقول بأن الأمة الإسلامية ستتجه تلقائياً نحو الالتزام بتعاليم الإسلام، مما يجعل الديمقراطية ضمانة للحكم الإسلامي. ويضيف بأن الأحكام القطعية المتعلقة بالحكم في الإسلام هي علي كل حال قليلة، بدليل أن الصحابة اقتتلوا حول الحكم، ولو كان الأمر بهذا الوضوح لما اقتتلوا. ولكن الشيخ جعفر يقلب هذه الحجة علي أصحابها، أولاً بالعودة إلي مقولته بأن الديمقراطية هي أيضاً وهم وغطاء لحكم الفرد أو القلة. ويري أن د. الطيب حين يدعمها يستبطن عقيدة تقديس الشعب، وأن القبول بمرجعية الشعب كمصدر للاجتهاد الديني يصطدم ليس فقط بسراب الديمقراطية، بل أيضاً بفكرة المواطنة التي تساوي بين المسلمين وغيرهم وتجعل الجميع شركاء في تحرير هذا الاجتهاد . وهذا لا يستقيم كذلك مع جهل كثير من عوام المسلمين بالدين. وبالمقابل فإن دعوي الطيب بأن القبول بحكم الله يعني القبول بحكم فرد مستبد قد ينحرف عن الدين لا يقبلها المنطق ولا يصدقها الواقع، لأنه لم يحدث أن انخدعت الأمة في دعوي باطلة لحاكم يقول انه يحكم بما أنزل الله بينما هو يخالف ذلك.الطريف أن المتحاورين يتفقان علي حل عملي ديمقراطي للسودان يقوم علي توافق بين المسلمين وغيرهم علي أن تحكم مناطق الأغلبية المسلمة بالشريعة بينما تستقل الولايات الأخري بحكم ذاتي علماني، مع وجود سلطة مركزية محدودة تنظم العلاقات بين الشطرين. ففيم الجدل إذن؟كما ذكرنا فإن الشيخ جعفر يريد أن يفرق بين المستوي الفكري الفلسفي الذي ينحصر الخلاف فيه، وبين المستوي العملي الذي يتفق المتحاوران في كثير من جوانبه. فهو لا يوافق فقط علي كثير من التطبيقات العملية للديمقراطية ويقدم وصفة علي أساسها للوضع في السودان، بل يري كذلك أنها مستمدة من صحيح الدين. ولكنه بالمقابل يري مع سيد قطب والمودودي أن فكرة حكم الشعب هي شرك محض لأن الحاكمية لا بد أن تكون لله وحده، وأن مجرد إطلاق اسم الديمقراطية علي نظام إسلامي يحوله إلي نظام لا إسلامي.ولكن الوصول إلي نتيجة في هذا الحوار رهن بالتفريق بين نوعين من الانتقاد يوجهان للديمقراطية: الأول كونها وهماً وخداعاً، وهو انتقاد جاء من جهات عدة ليس أقلها الفكر الماركسي، والثاني هو الانتقاد أعلاه بالتناقض مع الإسلام. وغني عن القول أن الانتقاد الأول يمكن أن يوجه إلي أي نظام فكري، وليس الإسلام بمنجاة من ذلك، حيث هناك ما يشبه الإجماع بين المسلمين بأن المثل العليا للإسلام في مجال الحكم لم توجد علي الأرض سوي في مرحلة الخلافة الراشدة العابرة. أما فيما يتعلق بالتناقض مع الإسلام فإن أطروحة الشيخ جعفر تقصره علي المستوي النظري، في حين تقبل بأن التطبيقات العملية للديمقراطية لا تخالف الإسلام، بل بالعكس تترجم قيمه إلي واقع.وليس من السهل الفصل بين هذه المستويات في التناول، ولكن يبدو أن الشيخ جعفر يستند في أطروحته علي عدة مقولات متداخلة، منها استحالة تطبيق الديمقراطية عملياً، وسهولة تحديد حكم الشرع للمختصين مع عدم موثوقية الرأي العام كدليل علي حكم الشرع. ولن نستطيع في هذه العجالة أن نتناول كل هذه القضايا، حيث ستحتاج إلي تناول أوسع في مقال لاحق إن شاء الله. ولكن ما يجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو أن الشيخ جعفر قلب الحكم حين سهل أمر تحديد حكم الشرع وبالغ في المسافة بين مثال الديمقراطية وواقعها. ذلك أن علماء السياسة المحدثين لايعرفون الديمقراطية الحديثة استناداً إلي نموذج الديمقراطية المباشرة الأثنية كما أفتي الشيخ، وإنما استناداً علي النماذج الواقعية الحديثة. ولأن الفكر السياسي الحديث (والممارسة السياسية المرتبطة به) واقعي إلي حد بعيد، فإن المسافة بين الواقع والمثال فيه ليست بالحجم الذي صوره. معظم المنظرين للديمقراطية الحديثة انطلقوا في كتاباتهم من نماذج ماثلة، أو من وصفات سرعان ما وجدت طريقها إلي التطبيق. فجون لوك استوحي أفكاره من ممارسات ثورة 1688 في بريطانيا، وبالمثل فإن مونتسكيو استوحي أفكاره من النموذج البريطاني بينما استوحي دي توكفيل النموذج الأمريكي (وهو نموذج استوحي بدوره أفكار مونتسكيو ولوك وغيرهما). وحتي ما أورده الشيخ جعفر من آراء حول الفجوة بين التنظير والممارسة في الفكر الغربي أصبحت جزءاً من أيديولوجية التبرير الديمقراطي. فعلي سبيل المثال فإن روبرت دال الذي استشهد به الشيخ جعفر لا يعتبر من منتقدي الممارسة الديمقراطية الأمريكية، بل بالعكس، من كبار المنظرين التبريريين لها. وإعادة توصيفه للديمقراطية تحت مسمي حكم الكثرة (polyarchy) انطلق من دراسة تجريبية لممارسات محددة، وكان يسعي لدعم مشروعية النظام الأمريكي. (وهو كان في ذلك يعارض منتقدي النظام الأمريكي من أمثال سي رايت ميلز صاحب نظرية تحكم الصفوة وأضرابه، وهم كانوا وما زالوا أقلية بين منظري السياسة الغربيين).ونختتم هنا بالقول بأن حجة الشيخ جعفر بلاواقعية الديمقراطية تستند من جهة علي فهم خاطئ مزدوج للتنظير الحديث حول الديمقراطية ولممارساتها، ومن جهة أخري فإنها حتي لو صحت لا تقيم الحجة علي أنصار الديمقراطية، لأن كل ممارسة لا بد أن تقصر عن المثال. إضافة إلي ذلك فإن مقولة أن أحكام الشرع شفافة وسهلة المنال بحيث يستطيع أهل العلم تحديدها بغير جهد هي من جهة غير صحيحة، ومن جهة أخري هي أيضاً غير ذات موضوع. ذلك أنه حتي في الديمقراطيات فإن هناك تفرقة واضحة بين عالم السياسة الذي يتم حسم الأمور به عبر اجتهاد الحكام الخاضعين لمساءلة الجمهور، وبين عالم القانون الذي ينفرد بالأمر فيه المختصون من القضاة والمحامين وغيرهم من القانونيين.والخطأ الأكبر الذي يرتكبه أكثر من يتناول قضية الحكم في الإسلام هو اعتبارهم أن الأمر برمته يقتصر علي تطبيق القانون، وأن الحاكم مجرد قاض يطبق القانون. وفي حقيقة الأمر فإن السياسة أوسع من ذلك بكثير، وتدخل فيها أمور لا تقتصر علي القانون، وإنما تتعلق بتوازن القوي واتخاذ القرارات حول شؤون الخدمات والاقتصاد والحرب والسلام وغير ذلك. ويمكن أن نضيف هنا أن الشرع الإسلامي هو كذلك أوسع بكثير من مجرد تحديد القانون وتطبيقة، بل فيه مجال واسع للمبادرة والاجتهاد والرأي.ونواصل إن شاء الله.
Tuesday, December 11, 2007
Subscribe to:
Posts (Atom)